فصل: من لطائف القشيري في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

وفي مقابلة استهزائهم بالمؤمنين باستهزاء الله بهم ما يدل على عظم شأن المؤمنين وعلو منزلتهم، وليعلم المنافقون أن الله هو الذي يذب عنهم ويحارب من حاربهم.
وفي افتتاح الجملة باسم التفخيم العظيم، حيث صدرت الجملة به، وجعل الخبر فعلًا مضارعًا يدل عندهم على التجدد والتكرر، فهو أبلغ في النسبة من الاستهزاء المخبرية في قولهم، ثم في ذلك التنصيص على الذين يستهزئ الله بهم، إذ عدى الفعل إليهم فقال: يستهزئ بهم وهم لم ينصوا حين نسبوا الاستهزاء إليهم على من تعلق به الاستهزاء، فلم يقولوا: إنما نحن مستهزءون بهم وذلك لتحرجهم من إبلاغ ذلك للمؤمنين فينقمون ذلك عليهم، فأبقوا اللفظ محتملًا أن لو حوققوا على ذلك لكان لهم مجال في الذب عنهم أنهم لم يستهزءوا بالمؤمنين.
ألا ترى إلى مداراتهم عن أنفسهم بقولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، وبقولهم: إذا لقوهم قالوا آمنا فهم، عند لقائهم لا يستطيعون إظهار المداراة، ولا مشاركتهم بما يكرهون، بل يظهرون الطواعية والانقياد. اهـ.

.قال الفخر:

قالت المعتزلة: هذه الآية لا يمكن أجراؤها على ظاهرها لوجوه:
أحدها: قوله تعالى: {وإخوانهم يَمُدُّونَهُمْ في الغى} أضاف ذلك الغي إلى إخوانهم، فكيف يكون مضافًا إلى الله تعالى.
وثانيها: أن الله تعالى ذمهم على هذا الطغيان فلو كان فعلًا لله تعالى فكيف يذمهم عليه.
وثالثها: لو كان فعلًا لله تعالى لبطلت النبوة وبطل القرآن فكان الاشتغال بتفسيره عبثًا.
ورابعها: أنه تعالى أضاف الطغيان إليهم بقوله: {في طغيانهم} ولو كان ذلك من الله لما أضافه إليهم، فظهر أنه تعالى إنما أضافه إليهم ليعرف أنه تعالى غير خالق لذلك، ومصداقه أنه حين أسند المد إلى الشياطين أطلق الغي ولم يقيده بالإضافة في قوله: {وإخوانهم يَمُدُّونَهُمْ في الغى} [الأعراف: 202] إذا ثبت هذا فنقول: التأويل من وجوه: أحدها: وهو تأويل الكعبي وأبي مسلم بن يحيى الأصفهاني أن الله تعالى لما منحهم ألطافه التي يمنحها المؤمنين وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم عليه بقيت قلوبهم مظلمة بتزايد الظلمة فيها وتزايد النور في قلوب المسلمين فسمي ذلك التزايد مددًا وأسنده إلى الله تعالى لأنه مسبب عن فعله بهم.
وثانيها: أن يحمل على منع القسر والإلجاء كما قيل: إن السفيه إذا لم ينه فهو مأمور.
وثالثها: أن يسند فعل الشيطان إلى الله تعالى لأنه بتمكينه وإقداره والتخلية بينه وبين إغواء عباده.
ورابعًا: ما قاله الجبائي فإنه قال ويمدهم أي يمد عمرهم ثم إنهم مع ذلك في طغيانهم يعمهون وهذا ضعيف من وجهين:
الأول: لما تبينا أنه لا يجوز في اللغة تفسير ويمدهم بالمد في العمر.
الثاني: هب أنه يصح ذلك ولكنه يفيد أنه تعالى يمد عمرهم لغرض أن يكونوا في طغيانهم يعمهون وذلك يفيد الإشكال.
أجاب القاضي عن ذلك بأنه ليس المراد أنه تعالى يمد عمرهم لغرض أن يكونوا في الطغيان، بل المراد، أنه تعالى يبقيهم ويلطف بهم في الطاعة فيأبون إلا أن يعمهوا.
واعلم أن الكلام في هذا الباب تقدم في قوله: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ} فلا فائدة في الإعادة. اهـ.
قوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طغيانهم يَعْمَهُونَ}.
فائدة: معنى الظغيان:
قال الفخر:
اعلم أن الطغيان هو الغلو في الكفر ومجاوزة الحد في العتو، قال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الماء} [الحاقة: 11] أي جاوز قدره، وقال: {اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى} [طه: 24] أي أسرف وتجاوز الحد.
وقرأ زيد بن علي في طغيانهم بالكسر وهما لغتان كلقيان ولقيان، والعمه مثل العمى إلا أن العمى عام في البصر والرأي والعمه في الرأي خاصة، وهو التردد والتحير لا يدري أين يتوجه. اهـ.

.قال الزمخشري:

سؤال: فإن قلت: لم زعمت أنه من المدد دون المد في العمر والإملاء والإمهال؟
قلت: كفاك دليلًا على أنه من المدد دون المد قراءة ابن كثير وابن محيصن: {ويمدّهم} وقراءة نافع: {وإخوانهم يَمُدُّونَهُمْ} [الأعراف: 202] على أن الذي بمعنى أمهله إنما هو مدّ له مع اللام كأملى له.
فإن قلت: فكيف جاز أن يوليهم الله مددًا في الطغيان وهو فعل الشياطين؟
ألا ترى إلى قوله تعالى: {وإخوانهم يَمُدُّونَهُمْ في الغى} [الأعراف: 202] قلت: إما أن يحمل على أنهم لما منعهم الله ألطافه التي يمنحها المؤمنين، وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم عليه، بقيت قلوبهم بتزايد الرين والظلمة فيها، تزايد انشراح والنور في قلوب المؤمنين فسمى ذلك التزايد مددًا.
وأسند إلى الله سبحانه لأنه مسبب عن فعله بهم بسبب كفرهم.
وإما على منع القسر والإلجاء وإما على أن يسند فعل الشيطان إلى الله لأنه بتمكينه وإقداره والتخلية بينه وبين إغواء عباده.
فإن قلت: فما حملهم على تفسير المدّ في الطغيان بالإمهال وموضوع اللغة كما ذكرت لا يطاوع عليه؟
قلت: استجرّهم إلى ذلك خوف الإقدام على أن يسندوا إلى الله ما أسندوا إلى الشياطين لكن المعنى الصحيح ما طابقه اللفظ وشهد لصحته، وإلا كان منه بمنزلة الأروى من النعام.
ومن حق مفسر كتاب الله الباهر وكلامه المعجز، أن يتعاهد في مذاهبه بقاء النظم على حسنه والبلاغة على كمالها وما وقع به التحدّي سليمًا من القادح، فإذا لم يتعاهد أوضاع اللغة فهو من تعاهد النظم والبلاغة على مراحل.
ويعضد ما قلناه قول الحسن في تفسيره: في ضلالتهم يتمادون، وأن هؤلاء من أهل الطبع. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ} أي يطيل لهم المدّة ويمهلهم ويُمْلِي لهم؛ كما قال: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمًا} [آل عمران: 178] وأصله الزيادة.
قال يونس بن حبيب: يقال مدّ لهم في الشر، وأمدّ في الخير؛ قال الله تعالى: {وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} [الإسراء: 6].
وقال: {وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} [الطور: 22].
وحكي عن الأخفش: مددت له إذا تركته، وأمددته إذا أعطيته.
وعن الفَرّاء واللَّحْياني: مددت، فيما كانت زيادته من مثله، يقال: مدّ النَّهْرُ النهرَ وفي التنزيل: {والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} [لقمان: 27].
وأمددت، فيما كانت زيادته من غيره؛ كقولك: أمددت الجيش بمَدَد؛ ومنه: {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاف مِّنَ الملائكة} [آل عمران: 125].
وأمدّ الجُرْحُ؛ لأن المدّة من غيره، أي صارت فيه مِدّة.
قوله تعالى: {فِي طُغْيَانِهِمْ} كفرهم وضلالهم.
وأصل الطغيان مجاوزة الحدّ؛ ومنه قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الماء} [الحاقة: 11] أي ارتفع وعلا وتجاوز المقدار الذي قدرته الخُزّان.
وقوله في فرعون: {إِنَّهُ طغى} [النازعات: 17] أي أسرف في الدعوى حيث قال: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} [النازعات: 24].
والمعنى في الآية: يمدّهم بطول العمر حتى يزيدوا في الطغيان فيزيدهم في عذابهم.
قوله تعالى: {يَعْمَهُونَ} يعمون.
وقال مجاهد: أي يتردّدون متحيّرين في الكفر.
وحكى أهل اللغة: عَمِه الرجلُ يَعْمَه عُموهًا وعَمَهًا فهو عَمِه وعامِه إذا حار، ويقال رجل عامِه وعَمه: حائر متردّد، وجمعه عُمْه.
وذهبت إبِلُه العُمَّهَى إذا لم يدر أين ذهبت.
والعَمَى في العين، والعَمَه في القلب؛ وفي التنزيل: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46]. اهـ.

.قال في الكشاف:

والطغيان: الغلو في الكفر، ومجاوزة الحدّ في العتوّ.
وقرأ زيد بن علي رضي الله عنه: {فِي طغيانهم} بالكسر وهما لغتان، كلقيان ولقيان، وغنيان وغنيان.
فإن قلت: أي نكتة في إضافته إليهم؟
قلت: فيها أن الطغيان والتمادي في الضلالة مما اقترفته أنفسهم واجترحته أيديهم، وأن الله برئ منه ردًّا لاعتقاد الكفرة القائلين: لو شاء الله ما أشركنا، ونفيًا لو هم من عسى يتوهم عند إسناد المدّ إلى ذاته لو لم يضف الطغيان إليهم ليميط الشبه ويقلعها ويدفع في صدر من يلحد في صفاته.
ومصداق ذلك أنه حين أسند المدّ إلى الشياطين، أطلق الغيّ ولم يقيده بالإضافة في قوله: {وإخوانهم يَمُدُّونَهُمْ في الغى} [الأعراف: 202]. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَيَمُدُّهُمْ فِي طغيانهم يَعْمَهُونَ} معطوف على قوله سبحانه وتعالى: {يَسْتَهْزِئ بِهِمْ} كالبيان له على رأي، والمدّ من مد الجيش وأمده بمعنى أي ألحق به ما يقويه ويكثره، وقيل: مد زاد من الجنس وأمد زاد من غير الجنس، وقيل: مد في الشر وأمد في الخير عكس وعد وأوعد، وإذا استعمل أمد في الشر فلعله من باب {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 1 2]، وقد ورد استعمال هذه المادة بمعنيين، أحدهما: ما ذكرنا، وثانيهما: الإمهال، ومنه مد العمر، والواقع هنا من الأول دون الثاني لوجهين:
الأول: أنه روي عن ابن كثير من غير السبعة {يمدهم} بالضم من المزيد وهو لم يسمع في الثاني.
والثاني: أنه متعد بنفسه والآخر متعد باللام والحذف والإيصال خلاف الأصل فلا يرتكب بغير داع، فمعنى {وَيَمُدُّهُمْ فِي طغيانهم} يزيدهم ويقويهم فيه، وإلى ذلك ذهب البيضاوي وغيره، والحق أن الإمهال هنا محتمل وإليه ذهب الزجاج وابن كيسان والوجهان مخدوشان، فقد ورد عند من يعول عليه من أهل اللغة كل منهما ثلاثيًا ومزيدًا ومعدى بنفسه وباللام وكلاهما من أصل واحد ومعناهما يرجع إلى الزيادة كمًا أو كيفًا، وفي الصحاح مد الله في عمره ومده في غيه أمهله وطول له، وروي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن مد الله تعالى في طغيانهم التمكين من العصيان.
وعن ابن عباس الإملاء ونسبة المد إلى الله تعالى بأي معنى كان عند أهل الحق حقيقة إذ هو سبحانه وتعالى الموجد للأشياء المنفرد باختراعها على حسب ما اقتضته الحكمة ورفعت له أكفها الاستعدادات، ونسبته إلى غيره سبحانه وتعالى في قوله عز شأنه: {وإخوانهم يَمُدُّونَهُمْ في الغى} [الأعراف: 202] نسبة التوفي إلى الملك في قوله تعالى: {يتوفاكم مَّلَكُ الموت} [السجدة: 11] مع قوله جل وعلا: {الله يَتَوَفَّى الأنفس} [الزمر: 2 4] وذهبت المعتزلة أن الزيادة في الطغيان والتقوية فيه مما يستحيل نسبته إليه تعالى حقيقة وحملوا الآية على محامل أخر، وقد قدمنا ما يوهن مذهبهم فلنطوه هنا على ما فيه وال طغيان بضم الطاء على المشهور، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما بكسرها وهما لغتان فيه، وقد سمعا في مصدر اللقاء، وقد أماله الكسائي، وأصله تجاوز المكان الذي وقفت فيه ومن أخل بما عين من المواقف الشرعية والمعارف العقلية فلم يرعها فقد طغى، ومنه طغى الماء أي تجاوز الحد المعروف فيه، وإضافته إليهم لأنه فعلهم الصادر منهم بقدرهم المؤثرة بإذن الله تعالى فالاختصاص المشعرة به الإضافة إنما هو بهذا الاعتبار لا باعتبار المحلية والاتصاف فإنه معلوم لا حاجة فيه إلى الإضافة ولا باعتبار الإيجاد استقلالًا من غير توقف على إذن الفعال لما يريد فإنه اعتبار عليه غبار بل غبار ليس له اعتبار فلا تهولنك جعجعة الزمخشري وقعقعته، ويحتمل أن يكون الاختصاص للإشارة إلى أن طغيان غيرهم في جنبهم كلا شيء لادعاء اختصاصهم به وليس بالمنحرف عن سنن البلاغة.
وال عمه التردد والتحير، ويستعمل في الرأي خاصة والعمى فيه وفي البصر فبينهما عموم وخصوص مطلق في الاستعمال وإن تغايرا في أصل الوضع، واختص العمى بالبصر على ما قيل، وأصله الأصيل عدم الأمارات في الطريق التي تنصب لتدل من حجارة وتراب ونحوهما وهي المنار ويقال عمه يعمه كتعب يتعب عمهًا وعمهانًا فهو عمه وعامه وعمهاء فمعنى يعمهون على هذا يترددون ويتحيرون، وإلى ذلك ذهب جمع من المفسرين، وقيل: العمه العمى عن الرشد، وقال ابن قتيبة: هو أن يكب رأسه فلا يبصر ما يأتي، فالمعنى يعمون عن رشدهم أو يكبون رؤوسهم فلا يبصرون وكأن هذا أقرب إلى الصواب لأن المنافقين لم يكونوا مترددين في الكفر بل كانوا مصرين عليه معتقدين أنه الحق وما سواه باطل إلا أن يقال التردد والتحير في أمر آخر لا في الكفر، وجملة {يَعْمَهُونَ} في موضع نصب على الحال إما من الضمير في {يمدهم} وإما من الضمير في {فِي طغيانهم} لأنه مصدر مضاف إلى الفاعل، وفي {طغيانهم} يحتمل أن يكون متعلقًا بيمدهم وأن يكون متعلقًا بيعمهون وجاز على خلاف كون {فِي طغيانهم} و{يَعْمَهُونَ} حالين من الضمير في يمدهم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)}.
ولما قال المنافقون: {إنما نحن مستهزئون} قال الله تعالى: {الله يستهزئ بهم} أي يجازيهم على استهزائهم، كذلك لما ألقى القوم أزِمَّتهم في أيدي الشهوات استهوتهم في أودية التفرقة، فلم يستقر لهم قدم على مقام فتطوحوا في متاهات الغيبة، وكما يمد المنافقين في طغيانهم يعمهون يطيل مدة هؤلاء في مخايل الأمل فيكونون عند اقتراب آجالهم أطول ما كانوا أملًا، وأسوأ ما كانوا عملًا، ذلك جزاء ما عملوا، ووبال ما صنعوا. وتحسين أعمالهم القبيحة في أعينهم من أشد العقوبات لهم، ورضاؤهم بما فيه من الفترة أَجَلُّ مصيبة لهم. اهـ.